Latest News
الخميس، 18 سبتمبر 2014

الأميرة السجينة

قال البرّاح: يا ناس يا سامعين... يا صغار‏ يا كبار... هكذا الدنيا تلعب بأقدار الملاح... يوم في الأفراح وعشرة في الأتراح...‏ كان يامكان في قدسم الزمان..........
على سفح الجبل العتيد تتربع دولة شامخة في عزها، هادئة في سير نظامها السياسي والاجتماعي،، تحيط بها البساتين باختلاف زهورها ورقصات فراشاتها وزقزقة عصافيرها وتغاريد طيورها الراقصة بين أفياء الأشجار المنتشرة على صدر البلدة...أو لِنَقُلْ البليدة لأنها صغيرة...‏
جلس الحاكم ذو اللحية البيضاء والشاربين الطويلين مزهواً ببرنوسه الأحمر وحذائه الجلدي الموشوم برسومات مختلفة واضعاً في رقبته قلادة وخاتماً يلمعان لمعان البرق الخاطف كما قبلتهما الشمس بأشعتها فيزداد المكان ضياء... تحت الشجرة التي اعتاد الجلوس في ظلالها يتزين المجلس بعدل الملك الذي بث الاطمئنان في القلوب ونشر الأمان في سائر أنحاء المملكة،، والورود الحمراء المتفتحة تستقبل قطرات الندى محتضنة إياها في حنو عجيب وحتى زهور الأقحوان تبتسم هي الأخرى سعيدة بمحاذاة السلطان....‏
وهو في جلسته الهادئة يفكر في العريس المفضل لابنته الوحيدة "كنزة"،، الموضوع الذي شغل باله كثيراً،، بدأت تحوم حولـه فراشة بلباسها المرونق،، تحط هنا وتطير هناك عالية بخفة عجيبة،، يترقبها الملك بنظرات شاردة،، يتبعها ببصره كأنه يستشيرها في طريقه لاختيار موفق لشاب من بين مواكب العرسان التي تتوافد عليه لطلب الأميرة "كنزة"،، وكلّ واحد يتميز بصفات محبوبة،، كالقوة وطيبة القلب والحنكة والدهاء...واصلت الفراشة ترنحها برقصاتها أمامه ثم اختفت بين الورود، فتّش عنها ببصره فلم يعثر عليها، وهنا راودته فكرة طريفة حول موضوع زواج ابنته إذ قرر إجراء امتحان لخطاب ابنته... والفائز منهم سيصبح صهراً له!!‏
إنّ مهرها سهل لكنه ممتنع... وجاء اليوم المعلوم، يوم الامتحان الذي يكرم المرء فيه أو يهان، فجلس على كرسي العرش وعلى رأسه تاج الملك واضعاً يده على خده، كم كان ذلك الكرسي مغرياً يومض ببريق السلطة الذي يسيل لعاب الطامعين والطامحين، بدا شكله رائعاً إذ كانت تزينه نقوش أصلية مستوحاة من عالم الطبيعة، ومن الفن التقليدي الأصيل لأجداد الأجداد، حتى أرجله تشبه رؤوس الغزلان، وعليه علّق جراب وبداخله شيء مجهول،، طلب الملك من الشاب معرفته فياله من امتحان! وياله من مهر وياله من مطلب عسير..!!!‏
تقدم إلى السلطان حشد من الفرسان يطلبون يد الأميرة يجربون حظوظهم في يوم مشهود حاولوا معرفة ما بداخل الجراب.... لكنهم أخفقوا كلهم في الامتحان، فيهم من قال:‏ - يوجد تفاح وآخر قال: ذهب،، ومن قال: رأس قرد وآخر قال: كتب،، وآخر قال: ثعبان... وعاد كلّ واحد مكسور الخاطر والوجدان يقول معزيّاً نفسه: المهم المشاركة.‏
وفي نهاية المنافسة قدم إلى قصر السلطان،، شاب وسيم،، يرتدي ملابس متواضعة،، تسبقه ابتسامته المشرقة التي تخفي ثقة وشجاعة، كما يخفي برنوسه البنفسجي المتدلي وراءه المشدود إلى رقبته أناقته المتميزة... ورغب في المشاركة لمعرفة ما بداخل الجراب...
حينما رأته الأميرة أعجبت بجماله فراحت تومئ له بإيحاءات وإشارات تدل على ما بداخل الجراب... من خلف الستار كانت تبدي له في يدها وردة حمراء...
- وأجاب الشاب الوسيم قائلاً:‏
يوجد داخل الجراب ورد أحمر.... فتهلل وجه السلطان بالبشر وهنأ الشاب على النجاح، ثم زوّجه ابنته "كنزة" وفاء بعهده، فأقيمت الأعراس البهيجة الحافلة بأهازيج الطرب المليئة بما لذّ وطاب من طعام ...لحوم وفواكه وحلويات...
وذات يوم ليس كغيره من الأيام، في الصباح الباكر تحول الشاب إلى أصله، إلى صورته الحقيقية.. الغول .. حمل الأميرة عنوة إلى قمة الجبل بعدما كمّم فمها بقطعة من القماش كي لا تستطيع الصراخ وفي قلعته أغلق حولها كل الأبواب الموصدة بالحديد وأرهبها بالتهديد والوعيد...
احتار السلطان وحزن لغياب ابنته الوحيدة، ومما زاد في حزنه وعذابه جهله بمصيرها وأخبارها... فكّر ملياً فخطرت بباله فكرة،، تذكّر حمامة السلام البيضاء،، الحمامة الزاجلة،، حاملة بريده إلى الأمراء والسلاطين في كل البلدان... فكتب مخطوطاً وعلّقه برجلها اليسرى... وأوصاها قائلاً:‏
-يا حمامة السّلام هذا الكتاب خذيه أمانة إلى ابنتي المهاجرة،، ابحثي عنها في الأرض وفي السماء، في كل مكان بالمعمورة واحذري أن تسلميه لغيرها.. ولا ترجعي إلى القصر حتى تبلغيها الرسالة وتأتي بأخبارها، زينة البنات.‏
طارت الحمامة تقطع الجبال والوديان،، تمر على القصور والجسور والمدن والقرى.. باحثة عن الأميرة الغائبة،، تواجه العواصف وزمهرير الرياح ورذاذ المطر ووابله...‏
وصلت الحمامة البيضاء إلى قلعة حديدية حيث أخبرها هاجس غريزي بواسطة حواسها أن صاحبتها الأميرة موجودة في هذه القلعة المهجورة،، فبدأت تحوم في فضاء القلعة واستمرت في رقصاتها الإستطلاعية. حتى لمحت الأميرة "كنزة" قادمة نحوها والابتسامة الحزينة تفترش محياها الذابل، نظرت إلى الحمامة الطليقة مستبشرة كسجينة اقترب موعد تسريحها، وهتفت:‏
-آه، أيتها الحمامة البيضاء،، يا رائحة الأهل القادمة،، يا حمامة السلطان العزيز هل تعرفت على التي كانت تقدم لك الحب؟! اقتربي،، حطي على ركبتي هذه،، قبل عودة الغول، الذي أغراني بزيف جماله فلم أسأل عن علمه وأخلاقه.‏
وأحسّت الحمامة بشعور الأميرة فحطت على ركبتيها،، احتضنت الأميرة الحمامة وقبلتها بحرارة ممزوجة بدموع الشوق والألم ثم اكتشفت الرسالة فأخذتها من رجلها وقرأتها،، فهمت ما احتوته فبكت وكتبت في الحين إلى والدها تحكي له مرارة العيش والمعاناة التي تمر بها عند الغول (الشاب) لقد ندمت كثيراً على زواجها واختيارها المتسرع للجمال الغادر...
طارت الحمامة عائدة بالمرسال والأخبار إلى السلطان... مسك السلطان الرسالة فرحاً،، وعند قراءة المراسلة شعر بنوبة الأسى تحتويه من جديد،، طلب إحضار "الشيخ المدبر" كي يبدي له عمّا يحس به ليشير عليه قصد إنقاذ ابنته من هذا الشاب الغول وليسأله:‏
-هل يفلح الجيش في استعمال القوة لاستعادة الأميرة كنزة المختطفة؟!‏
أقام الشيخ المدبر في جناح خاص، وعندما عرض عليه الملك الأمر لم يوافق على إرسال الجيش إلى القلعة الحديدية، لأن الغول قد ينتقم من الأميرة عند رؤية الجند قادمين نحوه، وأشار عليه بالذهاب إلى القلعة والتسلل داخلها بحكمة وشجاعة، ودلّه على فرسان يثق فيهم، شباب أبناء عجوز يمتازون بهاتين الصفتين،
ذهب السلطان حيث العجوز وروى لها مرارة معاناته بعد اختطاف ابنته، ووعدها بالعيش النعيم هي وأولادها إن أعادوا له فلذة كبده الأميرة "كنزة"...‏
فكرت العجوز كثيراً ملياً، وبعد تمحص وتدقيق في الموضوع طلبت من حراس الملك إحضار صوف الحرير، فأحضره الحراس على جناح السرعة...‏
شرعت العجوز الأرملة في حياكة الصوف حيث جلست على الأرض واضعة بين ركبتيها المغزل وبدأت تغزل صوف الحرير، ثم قامت بنسجه، حتى أخذ شكل ثوب مرقوم بأشكال وألوان زاهية، وحين أحسّت بقدوم أبنائها السبعة طلبت من الملك الاختفاء خلف الباب الخشبي...‏
دخل الشبان على أمهم المنهمكة في الحياكة فسعدوا لنشاطها ثم بدؤوا يسألون ويستفسرون عم تصنعه أمهم، ولمن هذا القميص الجميل، دون أن يشعروا بوجود غريب خلف الباب.. ردّت الأم وهي تبتسم:‏
"لمن يستحقه منكم يا أبنائي، للشجاع الحكيم... الذي يحقق لي أمنية لكنها محفوفة. بالمخاطر..‏
لقد بدأ الإخوة في استعراض قوتهم وشجاعتهم والسلطان خلف الباب يستمع، يقطب حاجبيه تارة ويبتسم تارة أخرى، ثم خرج من وراء الباب وخاطبهم وهم مشدوهين أمام المفاجأة الغريبة، فقال:‏
-إذن الحمد لله لقد عثرت على أشجع الفرسان، ما عليكم أيها الفرسان سوى إرجاع ابنتي من قبضة الوحش وأعدكم بالثراء، والجاه الذي تريدون إن وفقتم في مهمتكم بمشيئة الخالق...‏
قاد الأخ الأكبر إخوته الستة، كان يمتاز بدقة النظر وسداد الرأي وحنكة عالية ودهاء كبير، وهم يمشون خلف الحمامة الطائرة، يقطعون أشواطاً للعثور على الأميرة، وما هي إلاّ أيام حتى رأوا على قمة الجبل قصراً منيفاً يلفه الضباب كالثوب الشفاف تحوم حوله الخفافيش، تحرسه من كل غريب يقترب ولو من أسوار القلعة الحديدية المحيطة به... لقد كان منظر القصر مرعباً يدخل الفزع في قلوب المشاهدين، لكن الإخوة السبعة لم يتأثروا لذلك ولم يثن من عزمهم الشكل الخارجي الرهيب...‏
وقف الإخوة يتشاورون ويخططون للدخول وكذا يرصدون حركة الغول حين دخوله. ولما عاد في المساء وفتح الأبواب الحديدية السبعة ثم غلقها وراءه بمفاتيح مختلفة.. قال كبيرهم:‏
-إنه سجن يحيط بالأميرة الجميلة...‏
في منتصف الليل تسلّل الإخوة داخل القلعة الحديدية بواسطة حبل طويل، تعلقوا به ثم نزلوا ساحة القصر في هدوء تام... سمع الإخوة السبعة بعدما اقتربوا من باب القصر الحديدي شخير الغول ينبعث من جناح النوم مدوياً في سكون الليل كشلال الماء المتدفق من الأعالي، صعد الإخوة مدرجات القصر الواحد تلو الآخر، وفي مهارة عجيبة، استطاع الأخ الأكبر فتح الأبواب المغلقة والوصول إلى مخدع الغول حيث وجد الأميرة وضفائر شعرها مشدودة بيده الغليظة، تنام الأسيرة وخصلات شعرها الذهبي متدفقة كالشلال الحزين على ظهرها،، مستسلمة،، بائسة،، شاحبة الوجه،، نحيفة الجسم،، كأنها في سبات عميق،، مدّ الشاب يده نحو شعرها محاولاً فك ضفائرها من قبضة الغول، فاستيقظت الأميرة "كنزة" مذعورة لكن الشاب وضع راحة كفه على فمها يمنعها الصراخ ثم طمأنها بإشارة من ملامح وجهه مصحوبة بابتسامة. فاستبشرت بخلاصها وسارعت إلى الهروب مع الشاب وإخوته الستة الذين استعملوا المسلك الذي دخلوا منه كي يهرّبوا، حملوا الأميرة المنهكة القوى بالتناوب وهي مغمى عليها من الخوف الممزوج بالفرحة المفاجئة، واختفوا في الغابة ليأخذوا قسطاً من الراحة فأخذتهم غفوة نعاس من شدة السهر وناموا،،
تحسس الفراش فلم يجد الأميرة بجانبه،، كانت يده خالية من ضفائرها،، وجد قيدها مفككاً ففزع وفاض غيظه،، صرخ صرخة توقظ الموتى من قبورهم فاستيقظت حيوانات الغابة وطارت العصافير من أعشاشها مرعوبة،، كان الزبد يسيل من فمه وهو يبحث عنها في القصر وساحته.. ثم خرج إلى الغابة يقطع.. يكسر أغصان الأشجار بأسنانه ويدوسها بأقدامه الكبيرتين والخفافيش فوقه تشاركه العاصفة إنه الغول الغاضب...
اهتزت الأرض تحت أقدام الإخوة السبعة فاستيقظوا من نومهم حائرين،، الغول يتقدم نحوهم والشرر يتطاير من عينيه...
كان لأحد الإخوة ساقان طويلان فقرر استعمالها،، قال لإخوته:‏
-لي فكرة،،، نفُّر من الغول بعد أن نشعل النار في الغابة فيحترق هو وننجو نحن مع الأميرة...‏
عارضه أصغرهم قائلاً: هل تريد أن نحرق أنفسنا ونحن أحياء؟ وهل نسيت أن الشجرة مقدسة في أعرافنا ولا يجوز حرقها؟! أين شجاعتكم؟‏
طمأنهم أخوهم الأوسط: اتركوا الأمر لي فسوف أخرج سيفي في وجهه وأقاتله،، كما وعدنا أمنا والسلطان هذه هي الشجاعة،، هل نسيتم؟ وإذا استلزم الأمر سأستدعيكم فوراً..‏
لكن إخوته قالوا: يجب أن نواجه الغول جميعاً كرجل واحد وليكن ما يكن،،‏
وقبل أن يصل الغول إلى المكان هاجمه الشبان بقوة الأسود وشجاعة الأبطال وخفة الطيور ومهارة الفرسان،، فانهالوا عليه بوابل من ضربات السيوف حتى مزقوه وطار رأسه متدحرجاً على الأرض.... وعادوا والعود أحمد صحبة الأميرة ففرح السلطان فرحاً عظيماً،، وأقام حفلاً متواصلاً تم خلاله مكافأة الإخوة السبعة لعملهم،، لكن الصراع بدأ بينهم...‏
  هل تعلمون لماذا؟، لأن كلّ واحد أراد أن يتزوج الأميرة الحسناء وعندما أستشيرت الأميرة كنزة في الأمر اختارت الشاب الذي فك قيدها وضفائرها من يد الغول، قائلة:‏
-جمال الرجل في عقله وليس في جسمه أو جيبه..‏
قال البرّاح: وهكذا تنتصر الحقيقة على الزيف وينكشف كل غادر طال الزمان أم قصر....‏ 
  • Blogger Comments
  • Facebook Comments

1 التعليقات:

  1. امتعتنا اخي حواس بهذه القصة الجميلة...ايها الحكواتي المتيع....شكرا لك ولما تكتب

    ردحذف

Item Reviewed: الأميرة السجينة Rating: 5 Reviewed By: الثقافية